كشف الكذب

كثيراً ما يتردد هذا السؤال في أذهاننا عندما يحدثنا شخصٌ ما وينتابنا شعور بعدم الثقة تجاهه، فنتساءل؛ يا ترى هل هو صادق في كلامه أم لا؟ فقد تكون هناك بعض الدلائل التي تشكك في صدق هذا الشخص؛ مثلاً إن كان يتصبب عرقاً ويتحدث بارتباك فهذا أمر مثير للشك بديهياً، ولكن إذا كان المتحدث يمتلك الثقة الكافية للحديث بجرأة، فهذا يزيد الأمر غموضاً… إذاً ما رأيكم أن نتعرف على إحدى الطرق المستخدمة لكشف هذا الغموض؟!

هناك العديد من الطرق التي تستخدم في التحري لاستخراج المعلومات الصحيحة من الشخص المعني، إلا أننا سنتناول الطريقة التي تتم بالاستعانة بجهاز كشف الكذب الشهير بالبولي غراف. إذاً ما هو هذا الجهاز وكيف بدأت قصته… تروي الحكاية أنه في عام 1921 كان جون أغسطس John Augustus يدرس الطب بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وقد لمعت في رأسه فكرة بالتعاون مع ضابط يعمل في شرطة بيركلي، فكان نتاج هذا التعاون أن يتم قياس التغيرات الفسيولوجية للشخص الذي يتم التحقيق معه، وبالمقابل فإن هذه التغيرات تكون مؤشراً للصدق أو الكذب، فتوصلوا إلى اختراع ما يعرف بجهاز “البولي غراف” polygraph وهو أحد الأجهزة الشهيرة على مستوى العالم التي تستخدم في التحقيق لكشف الكذب، ويعتمد الجهاز على أخذ قياسات حيوية للجسم، مثل ضغط الدم وضربات القلب، وسرعة التنفس وموصلية الجلد، وغيرها من المؤشرات التي إذا تغيرت بصورة ملحوظة أثناء الاستجواب، فإنها تمثل أصابع اتهام للشخص المستجوب.

لكشف الكذب باستخدام هذا الجهاز، فإنه لابد من جلسة مسبقة للاستجواب، وذلك لمعرفة الوضع الطبيعي للشخص، وبذلك تصبح ضربات القلب وضغط الدم وبقية المؤشرات في تلك الجلسة هي المعيار للزيادة أو النقصان، فإذا زادت ضربات القلب مثلاً في جلسة الاستجواب الحقيقية، فهذا يعني انفعال هذا الشخص مع السؤال الموجه له مما يشكك في صدق كلامه، وإذا زادت هذه المؤشرات بصورة كبيرة فإن التشكيك يزداد معها قوة.

بالرغم من أن خصلة الكذب خصلة ذميمة للغاية، إلا أنها تمثل جزءاً من حياة كثير من الناس يلجؤون إليها بحجة الخروج من المآزق، كما أنها قد تصبح خصلة دائمة لدى الجواسيس، إذ أنه غالباً ما يتعرضون للاستجواب والضغط عليهم لاستخراج المعلومات، لذا كان جهاز البولي غراف خياراً مناسباً لرجال الأمن ليتم تجربته في جلسات الاستجواب مع مثل هؤلاء، ولكنه بالرغم من ذلك فإنه لا يعطي نتائج مؤكدة، بل يعتمد القرار النهائي على الشخص الذي يجري الاختبار ليحدد مصداقية الكلام الذي يقوله الشخص المستجوب من خلال تقييم التغيرات الفسيولوجية التي يرصدها الجهاز.

يبدو أن شكل جهاز البولي غراف كما يشير اسمه تماماً، فالكلمة تعني المِخطاط المتعدد، لأنه كان في السابق جهازاً يقوم برسم خطوط متعددة تمثل تلك القياسات التي يأخذها من الجسم، ويتم رسم هذه الخطوط من خلال عدة أقلام مثبتة على سطح ورقة تتحرك بحركة مضبوطة في اتجاه واحد، بينما تتحرك الأقلام إلى أعلى وأسفل حسب التغيرات في الجسم، فينشأ عن حركة الورقة والأقلام معاً خطوط على شكل منحنيات ومخططات، بعدها تتم مقارنة الخطوط التي نتجت في الوضع الطبيعي قبل التحقيق مع الخطوط التي نتجت في جلسة التحقيق الفعلية، ومن خلال ملاحظة الفرق بين الرسومات يظهر صدق أو كذب المتهم.

أما الآن فقد تطور الأمر مع ظهور التقنيات الرقمية، فبات جهاز البولي غراف يصنّع من قبل شركات متخصصة مثل شركة أكستون Axciton Systems, Inc. وهي أول شركة متخصصة في صناعة أجهزة البولي غراف المحوسبة، كما ابتكرت أجهزة أخرى مساند مثل جهاز رصد الحركة، وقد أصبح البولي غراف يتيح قياسات رقمية يتم تسجيلها على الحاسب الآلي، وصار أكثر دقة من السابق، وبات يستخدم في العديد من الأجهزة الأمنية الشهيرة مثل FBI , CIA وتستخدمه حوالي 70% من مراكز الشرطة حول العالم. ومع ذلك تبقى موثوقية هذا الجهاز محل الشك دائماً، فقد أصدرت الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم في عام 2003 تقريراً رسمياً بزيف موثوقية هذا الجهاز، هذا بعد أن استخدم حول العالم لعشرات السنين! لذا نجد أن هناك طرق أخرى مستخدمة في جلسات التحقيق، منها طرق منطقية وتحليلية للوصول إلى الحقيقة، أو قد يتم استخدام عقاقير تجعل من الشخص المستجوب يتكلم بإفراطٍ بالغ، فتظهر المعلومة المطلوبة أثناء كلامه الكثير بصورة تلقائية. وحديثاً يمكن للواجهات الدماغية الحاسوبية أن تكون المنفذ الأول الذي يصل الأجهزة الرقمية مباشرة بدماغ الإنسان، وهذا قد يتيح مقدرات أعمق لقراءة أفكار البشر في المستقبل، ولكن إلى ذلك الحين يبقى جهاز البولي غراف بلا شك وسيلة أفضل من التخمين، كما أنه في تطور مستمر لزيادة دقته…