البتراء مدينة بين الصخور

468x60

 قبل أكثر من ثلاثة قرون سبقت ميلاد المسيح عليه السلام، كان مولد مدينة البتراء عاصمة مملكة الأنباط على هذه الصخور الصماء، فنحتوا تلك الجبال الشامخة، ليصنعوا صروحاً معمارية عملاقة ومبانٍ متقنة الصنع، ولازالت آثار تلك المدينة هناك لم تبرح مكانها رغم كل تلك القرون، إلا أنها لم تعد كما كانت عليه في ذلك الحين، فقد كانت مدينة تعج بسكانها وتتمتع بمكانة تجارية مميزة في العالم القديم، ولا عجب في ذلك؛ فقد كانت عندها تتقاطع عدة طرق تجارية مهمة، وتجتازها القوافل ذهاباً وإياباً، حاملة معها الحرير والتوابل والبهار والزجاجيات واللؤلؤ… نعم كل ذلك كان في هذا المكان القاحل، كان يقطنها ثلاثون ألف نسمة، كانت بها مملكة تمسك بعنق التجارة العالمية يوما ما… أما الآن فقد صارت مكاناً خالياً تسكنه الرياح، يستأنس بمن يقصده من الزوار والسياح عسى أن يخفف هذا من وحشة المكان.
تقع الآن مدينة البتراء في محافظة معان، جنوب المملكة الأردنية الهاشمية، وهي بلا شك من أهم المعالم السياحية بالعالم، إذا أنها تخلد تاريخ تلك الحضارة النبطية التي اختفى سكانها، ولكنهم تركوا آثارهم لتحكي عن مدى تطور الفنون في عصرهم. كان يسكن البتراء شعب يسمو الأدوميون، منذ 1200 سنة قبل الميلاد، وسكنوا التلال المحيطة بالبتراء، ولم يتوغلوا بالجبال؛ فلم تكن لهم مهارة النحت على الصخور بينما كانت فنونهم تتجسد على الفخاريات، وعندما أتى الأنباط نقلوا منهم هذا الفن وسكنوا تلك الجبال وزخرفوها بتلك المنحوتات الباهرة، واتخذوا من البتراء عاصمة لدولة الأنباط التي امتد نفوذها من فلسطين غرباً، وحتى الشام شرقاً، ومن دمشق شمالاً وحتى البحر الأحمر جنوباً. وقد بلغت تلك الدولة أوج ازدهارها في القرن الأول قبل الميلاد.
تبدأ مدينة البتراء من مدخلٍ جبلي ملتوٍ على طول 1200 متر قد تشكل معظمه طبيعياً، وعلى الأرجح من خلال جريان المياه ونحتها على الصخور، ويسمى هذا المدخل بالسيق، وهو شق جبلي بارتفاع 80 مترًا وعرض يتراوح بين 3 و 12 مترًا، جوانبه مزخرفة بالمنحوتات النبطية، وأرضيته من بلاط حجري، وتوجد على جانبيه قنوات لجر المياه، فقد كانت البتراء تحتوي على مصادر مائية عذبة وأراضٍ خصبة، وقد تعلم الانباط كيفية تسخير هذا المياه لخدمتهم، وأجروها عن طريق أنابيبٍ مصنوعةٍ من الفخار مصفوفةٍ على مسارٍ منحدرٍ، وصنعوا بذلك شبكة لتوزيع المياه في المدينة، كما تعلموا حفظ هذه المياه لوقت الجفاف، إذ أنّ المدينة بها مستودعات أرضية ضخمة لحفظ المياه، كما أقاموا سداً لحماية مدينتهم من الفيضانات، وأنفاقاً لتصريف مياه الفيضان، فمدينتهم الجبلية الحصينة قد تعني الموت إذا ارتفع فيها منسوب المياه أكثر مما ينبغي.
بعد هذا الممر الجبلي يظهر للزائر نحت شاهق يشبه قلعة قد تم تركيبها على جبل، هذا النحت هو من أهم معالم البتراء، ويسمى بالخزنة، ولطالما حير هذا الصرح المعماري علماء الآثار، فاحتروا هل هو معبد أم نصب تذكاري أم مكان لتقديم القرابين؛ فهو قصر مهيب قد نحت بعناية شديدة على هذه الصخور الرملية، فطريقة النحت المعماري تختلف عن البناء العادي؛ إذ أنها لا تقبل بالكثير من الخطأ ويصعب فيها إصلاحه، كما أن أحدث الأدوات التي كانت متوفرة في ذلك الوقت هي المعاول الحديدية، وهو ما يشير إلى قوة وشدة أهل ذلك المكان، وبراعة هندستهم في آن واحد.
كانت تسمى هذه الخزنة بخزنة فرعون عند أهل المنطقة، فكانوا يظنون أن بها كنز الفرعون، إلا أن علماء الآثار وجدوا أنه لا علاقة لها بالفرعون، وإنما كان ذلك مجرد اختلاط في التشبيه، إذ أن مدخل الخزنة الذي يصل ارتفاعه إلى 39 متر مزينٌ بزخارف تمتزج فيها الثقافات التي كانت في العالم ومن بينها الثقافة المصرية القديمة، ويبدو أن النبط قد تعلموا الكثير عن الأمم الأخرى أثناء حلهم وترحالهم.
وأسفل تلك النقوش تقف ستة أعمدة شامخة تدعم حمل الواجهة من الأسفل، اثنان منها في الوسط قد بنيت بالحجر الرملي كدعامة احتياطية، أما بقية الأعمدة فقد نحتت كجزء من هذا العمل الفني الرائع، ويتوسط هذه الأعمدة درج يؤدي إلى داخل الخزنة، حيث توجد ثلاث حجرات فارغة يحار الزائر عند رؤيتها، ولماذا كانت هذه الغرف؟! احداهما تحوي قبراً قد حفر على الصخر، وهو ما يشير إلى أن هذا الصرح كان مدفناً، ويرجَّح أنه قد بني في عهد الملك الحارث الرابع الذي بلغت المملكة النبطية في عهده قمة ثرائها الفاحش، ويؤكد ذلك أيضاً اكتشافٌ متأخرٌ لثلاث غرفٍ أسفل هذه الواجهة قد طمرتها الرمال عبر القرون، ووجد علماء الآثار أن هذه الغرف كانت للدفن، حيث توجد بها بقايا لأموات وأوانٍ للبخور تعود للقرن الأول الميلادي في فترة حكم الملك الحارث الرابع… ولكن يبقى السؤال؛ ماذا كان يتم تحديداً داخل هذه القلعة الصخرية الضخمة؟
كان الأنباط يقتاتون على الزراعة، كما تعلموا صناعة الفخاريات وفن الرسم بالرمال، وعرفوا كذلك التعدين، فكان معدن النحاس يشكل عصب الحياة الاقتصادية في الدولة، وكانت لديهم أقدم مناجم للنحاس بالعالم، وتعلموا تشكيل هذا المعدن لصناعة عملة تحرك عجلة الاقتصاد في دولتهم، وقد وجدت بعض عملاتهم البرونزية منقوش عليها صورة واسم الملك الحارث الرابع.
بعد أن أمسك الأنباط بزمام التجارة، بسطوا نفوذهم على المنطقة واحتلوا مكانة قيمة بين الحضارات والأمم الأخرى وازداد ثراؤهم ورفاهيتهم التي تنعكس بوضوح على أبنيتهم وأضرحتهم الفارهة، وتغير حالهم بعد أن كانوا يرتحلون من مكان لآخر بحثاً عن الكلأ والماء، وقد كانت مملكتهم في تصادم مستمر مع الدولة الرومانية، إذا أنهم يتحكمون في أهم التجارة العالمية، مما دفع اليونان لمناوشتهم من حين لآخر، وارسال الحملات العسكرية لردعهم، ولكنّ دفاع الأنباط عن مملكتهم كان مستمراً حتى سقطت على يد الرومان في عام 106، وضموها للإمبراطورية الرومانية.
بعدها شهدت البتراء نهضة جديدة في عالم العمارة، حيث قام الرومان بتشييد أبنيتهم، وأقاموا فيها مدرجاً، كما بنوا ما يعرف بقصر البنت الذي يقع في قلب المدينة ولا تزال أطلاله هناك، وكانت به تعقد الصفقات التجارية والمقايضات بين القوافل المحملة بالبضائع، فيتم تبادل منتجات الشرق مع الغرب وسط توازن تجاري بين المشرق والمغرب يتم في مدينة البتراء، واستمر هذا الحال لقرنين من الزمان… ولكن رويداً رويداً فقد المدينة مكانتها، بعد أن نشأت مدن تجارية أخرى منافسة.
وتحتوي البتراء على العديد من المعالم الأثرية التي تحكي عن المدينة، فقد كانت هناك مختلف الأغراض للنحت، فنجد المدافن الصخرية والأضرحة حيث يسكن الأموات، وكذلك المعابد التي شيدت لممارسة الطقوس الوثنية، كما شهدت البتراء تناغماً بين الوثنية والمسيحة جنباً إلى جنب بعد تحول الدولة الرومانية إلى دولة مسيحية، وقد تم تحويل بعض المباني فيها إلى كنائس وأديرة.
 
خلال أكثر من عشرين قرناً من الزمان، شهدت المدينة العديد من عوامل التعرية، التي محت بعض معالمها، هذا بالإضافة لعمليات الطمر المستمرة التي تقوم بها الرياح حاملة معها الرمال لتخفي بها هذه المدينة، وقد كانت هذه المنطقة منسية لفترة طويلة، حتى بدأت عمليات للكشف عن مدينة مفقودة في هذا المكان.
 فصارت معلماً تاريخياً يقص تفاصيل حياة حضرية متقدمة كان يعيشها الإنسان النبطي، والآن يأتيها الزوار من كل مكان بالعالم ليشهدوا روعة تلك المدينة، وفي كل عام يزورها ما يصل إلى 900 ألف سائح قد شغفه حب هذا المكان.
 جحيم بيرل هاربر (الغزو الياباني لأمريكا)
468x60
معلومات عن التدوينة الكاتب : Unknown بتاريخ : الثلاثاء، 22 سبتمبر 2015
المشاهدات :
عدد التعليقات: 0، للإبلاغ عن رابط معطوب اضغط هنا
250x300
تعليقات الفيس بوك
0 تعليقات بلوجر

من الرائع ان تشاركنا تجربتك ورأيك، من فضلك لا تستخدم أي كلمات خارجة، روابط لا علاقة لها بالموضوع لانه سيتم حذفها فوراً.
وتذكر قوله تعالى: "مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ"

شكرا لتعليقك
مدونة دليلي
عرب ويب