جمال الخط العربي

468x60


لغتنا العربية؛ كم هي كلمة تحمل في طياتها العديد من المعاني التي تعكس جوانب شتى من هذه الثروة الهائلة من الكلمات والعبارات والمفردات مرنة المعاني، وطيعة الاستخدام، وتمتد هذه المرونة لتشمل حتى تلك النقوش والحروف التي تكتب بها، فهي نقوش كما لو أن الحياة تدب فيها، تتحرك على نسق معين، تتمايل مع حركة اليد في كل الاتجاهات لتعكس الإحساس الداخلي للنفس على هيئة خطوط ومنحنيات بارعة الالتفاف والتشابك مع بعضها، نقوش تعبر بدقة عن شخصية من يكتبها وكأنها لوحة جدارية رسمها فنان ليجسد أحاسيسه فيها بعمق.
يتضح جلياً لكل ناظر أن الحروف العربية لها من المرونة ما لا تمتلكه أية لغة أخرى من لغة الأعاجم، وما وصلت إليه من جمال الخط والرسم ما هو إلا حصيلة جهود كثيرة أثمرت عن هذه الكنوز الفنية التي نراها بأبهى صورها، ولكن لا ندري على وجه اليقين كيف بدأت هذه الأشكال من العدم، وقد تعددت الأقوال حول أول من بدأ الخطوط العربية؛ فقيل إنه آدم أبو البشر، وقيل إسماعيل عليه السلام، وتكثر الأقوال في ذلك. ومما لا شكّ فيه أنه فنّ تطور مع الزمن، حتى وصل إلى قريش معقل الرسالة المحمدية، وكان الخط الذي يكتب به عندهم آنذاك هو خط الجزم الذي تعلمته قريش وانتشر فيما بينهم، وقيل أنّه تطور من الخط النبطي الآرامي المنشأ الذي كانت تكتب به ملوك العرب قديماً… وسواء كان ذلك أم لا، فإن البداية الحقيقية لثورة هذا الفن عند انتقاله إلى المدينة المنورة حيث كان كتبة الوحي، فأخذ طابع القداسة والاهتمام لارتباطه الوثيق بكلام الحق عز وجل، واشتهر بعد ذلك بالخط بالحجازي، وهو أصل خط النسخ الحالي، وكان معه عدد من الخطوط الأخرى التي اختفت ولا يعرف الكثير عن أشكالها؛ كالخط الحيري، والبصري، والأنباري الملكي.
وقد عني المسلمون الأوائل بالكتابة وفنونها لحفظ تراثهم وإرثهم الثقافي ونقله للحضارات الأخرى في أزهى حلية، خاصة بعد انتشار رقعة البلاد الإسلامية. ومن الخطوط التي ظهرت بعد الخط الحجازي، الخط الكوفي الذي تطور واتخذ أشكالاً هندسية مميزة عن أشكال الخط الحجازي، واشتهر حتى صار الخط الذي تكتب به المصاحف والشعر والأخبار في البلاد الإسلامية وتسك به العملات النقدية.
صار الخط صنعة رفيعة في ظل الخلافة الإسلامية يقصدها الكثير من الناس لاكتساب الرزق؛ كيف لا وقد كان ذلك في وقت ثورة العلوم العربية، فقد كانت الكتابة تتم فقط عن طريق النسّاخ والخطاطين، وعلى الرغم من أنها طريقة تعد بدائية عند مقارنتها بما نمتلكه اليوم من وسائل سريعة ومتطورة، إلا أنّ ما نتج عنها من الكتب والعلم الوفير في تلك الفترة، نعجز عن تقديمه اليوم على الرغم من توفر السبل لدينا.
ومع ازدياد الاهتمام بالكتابة والنسخ، كان لا بد من وجود ضبط لقواعد هذا الفن الرفيع، فكان الخطاطون يعلّمون من بعدهم من هو أهل لارتياد هذا الفن، وهناك من ذهب لوضع أصول وقوانين لرسم الخطوط، مثل “الأحول المحرر” و” أبو الحسن التيمي”، ومنهم من وضع الأقلام الخاصة بالكتابة، فظهرت أقلام بعينها للخطوط بحسب نوعها، مثل قلم المرصع وقلم النساخ وقلم الرياسي، وقلم غبار الحلية وقلم الرقاع، وكان كل قلم يتناسب تماماً مع حجم الخط وميلانه في الكتابة… وتطور الأمر حتى ظهرت الأقلام الستة الشهيرة بأشكالها المميزة؛ الثلث والنسخ والتعليق (الفارسي) والريحان والمحقق والرقاع، وتندرج عنها خطوط أخرى.
كان الخطاطون يختارون أقلامهم بعناية كما يختارون طعامهم، ومنهم من ذهب للتأليف في هذا الباب؛ حتى يبين كيف للخطاط أن يبرى القلم، وكيف يشقه، ويختار مداده وما إلى ذلك من القواعد المتعلقة بأدوات الكتابة ومعرفة جيدها من رديئها. ومنهم من ذهب لتأليف القصائد، ليشرح في أبيات شعرية كيف تنقش الحروف، وكيف يوضع القلم ومن أي جانب يبدأ الخطاط بالكتابة…
بلغ فخر العرب والمسلمين بلغتهم ورسمها ذروته؛ فزخرفوا بها مساجدهم وزينو بها كتبهم، وحفظوا به إرثهم. حتى قال الخليفة المأمون: “لو فاخرتنا الملوك الأعاجم بأمثالها لفاخرناها بما لنا من أنواع الخط… يقرأ في كل مكان، ويترجم بكل لسان، ويوجد في كل زمان”. وصدقاً لقوله؛ فهو لا يزال باقياً حتى الآن.
وفي العصر الحديث، لا يزال هناك الكثير من المتأثرين بفن الخط العربي، وتقام له الكثير من المعارض حول العالم، فتراه ممزوجاً بلوحات قد لا تحمل دلالة لغوية واضحة أحياناً، إلا أن أثر حركة القلم العربي واضح على الفن، وسواء كانت اللوحات شرقية أم غربية مستشرقة، فهي تعكس بوضوح جمال هذا الفن وتأثيره العميق في نفس الرسامين في الشرق والغرب.
وأخيراً نختم بمقولة الفنان الإسباني الشهير “بابلو بيكاسو” زعيم الرسم الحديث: “إن أقصى ما وصلت إليه في فن الرسم وجدت الخط العربي قد سبقني إليه منذ أمد بعيد”… هكذا يقال عن تراثنا وفنوننا، فهل نحن نقدر حقاً ما نمتلكه من إرث حضاري، أم أننا سنظل مستغربين.
فاصل 1
 اضغط لقراءة المقالة: جحيم بيرل هـاربُـر (الغزو الياباني لأمريكا)
 ساهم في تطوير دليلي عبر البايبال
468x60
معلومات عن التدوينة الكاتب : Unknown بتاريخ : الاثنين، 1 يونيو 2015
المشاهدات :
عدد التعليقات: 0، للإبلاغ عن رابط معطوب اضغط هنا
250x300
تعليقات الفيس بوك
0 تعليقات بلوجر
مدونة دليلي
عرب ويب